ولم يكن جمع السور وآياتها كلها في مصحف واحدٍ في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقصر المدة بين زمن نزول آخر ما نزل من القرآن وزمن انتقاله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، ولم يكن الجمع في مصحف متصوّراً في عهد استمرار النزول. وجمعت كل سورة في صحف خاصة وقراطيس مرتبة الآيات بخط زيد بن ثابت - رضي الله عنه - في عهد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - تحت إشراف جمهرة القرّاء من الصحابة ، وجروا على طريقة الكتابة من عين ما كُتبَ بين يدي الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- بعد ثبوت ذلك بشهاد شاهدين عدلين بأن هذا هو المكتوب بعينه بمحضر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مبالغة في المحافظة على رسم القرآن المتبع عند كتابته أمام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بمحضر الصحابة ، ولم يكن المراد بالإشهاد الإشهاد على نفس النظم الكريم أصلاً ، فإن الصحابة الذين كانوا يحفظونه كانوا في غاية من الكثرة ، وحديث خزيمة ينادي بانّ الإشهاد إنما كان على القطع المكتوبة.*
واستشهاد جماعة كبيرة من قرّاء الصحابة في اليمامة هو الباعث على اقتراح عمر - رضي الله عنه - جمع القرآن في الصحف ، وتَرددُ الصدّيق - رضي الله عنه - بادئ بدء إنما كان بملاحظة أن ذلك ربما يكون سبباً للتواكل في حفظه والتكاسل في استظهاره لا باعتبار التحرج في الكتابة . قال الله تعالى : { رسولٌ منْ اللهِ يتلو صُحُفاً مطهّرة} فأنّى يُتَصورُ التحرجُ من كتابة آيات السور في الصحف مع وجود هذه الآية الكريمة!.
ولم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - يستصحبون شيئا مكتوباً من القرآن في حروبهم وأسفارهم مخافة أن يناله العدو بسوء وانقياداً لنهي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو. وشهداء اليمامة من قرّاء الصحابة ما كانوا استصحبوا شيئا من القطع المكتوبة بمحضره - عليه السلام - المحفوظة في بيوتهم لنهيه - صلى الله عليه وآله وسلم - عن ذلك ، لكن إذا تكرر مثل هذه الحادثة قبل جمع الآيات في الصحف بالنقل من تلك القطع ، فإنه يحصل اضطرار إلى الجمع بإملاء حفاظ القرآن من الصحابة عن ظهر القلب فينسى الرسمُ الذي جرى عليه الصحابة بمحضر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فاقترح عمر ما اقترح ، ووافقه الصدّيق وسائر الصحابة - رضي الله عنهم - على ذلك حتى تم جمع آيات كل سورة في صحف خاصة بيد زيد بن ثابت - رضي الله عنه - تحت إشراف جمهرة الصحابة ، فكُتبت مئات من المصاحف من تلك الصحف.
يتبع
_______________
(*) حديث خزيمة هو ما رواه البخاري في (باب جمع القرآن ) عن زيدَ بن ثابت قال :
(فقدتُ آية من الأحزاب حين نَسَخنا المصحفَ قد كنتُ أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها فالْتمسناها فوجَدناها مَعَ خُزيمَةَ بن ثابت الأنصاريّ: {منَ المؤمنين رجالٌ صَدَقوا ما عاهدوا اللَّهَ عليه} فألْحقناها في سورِتها في المصْحَفِ ) ، وفي رواية : (لم أجِدْها عندَ أحدٍ إلا مَعَ خُزَيمَةَ الأنصاري الذي جَعَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شهادتهُ شهادَةَ رجلين ) ، وفيه أن الآية معروفة لهم وإنما كانوا يبحثون عن الرسم. هاني