عرض القرآن وترتيب السور :
وقد صحَّ عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يعارض القرآن على جبريل مرة في كل سنة في شهر رمضان ، وفي عام انتقاله إلى الرفيق الأعلى كانت المعارضة بينهما مرتين في شهر رمضان منه. والمعارضة تكون بقراءة هذا مرة واستماع ذاك ثم قراءة ذاك واستماع هذا تحقيقاً لمعنى المشاركة ، فتكون القراءة بينهما في كل سنة مرتين ، وفي سنة وفاته أربع مرات ، فتفرّس النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تكرير المعارضة في السنة الأخيرة قرب لحوقه بالرفيق الأعلى ، فجمع الصحابة رضي الله عنهم فعرضَ القرآن عليهم آخر عرضة.
والقراءات الواردة في العرضة الأخيرة هي أبعاض القرآن المتواترة في كل الطبقات ، فيكفر جاحد حرف منها ، إلاّ أنّ من القراءات المتواترة ما هو معلوم تواتره بالضرورة عند الجماهير ، ومنها ما يَعلم تواتره حذّاق القراء المتفرغون لعلوم القراءة دون عامتهم ، فإنكار شيء من القسم الأول كفر باتفاق . وأما الثاني فإنما يُعدُّ كفرا بعد إقامة الحجة على المنكر وتعنته بعد ذلك ، فتهوين أمر القراءات السبع أو العشر المتواترة خطر جداً ، وإن اجترأ على ذلك الشوكاني وصدّيق خان القنوجي ، مع أنّ شيخ الصناعة الشمس الجزري يسرد أسماء رواة العشر طبقة بعد طبقة في كتابه (منجد المقرئين) بحيث يجلو لكل ناظر أمر تواتر القراءات العشر في كل الطبقات جلاء لا مزيد عليه فضلاً عن السبع. وهذا مع عدم استقصائه رواة العشر في كل طبقة.
فمن المضحك جداً دعوى الشوكاني والقنوجي استنتاج مزاعمهما السابقة من كلام ينسب إلى ابن الجزري. ودونك نصه الصريح في كتاب (المنجد) له على التواتر. وأما كلام ابن جرير في بعض قراءات ابن عمر ونحوه فهفوة باردة من قبيل القسم الثاني ، وكذلك ما وقع للزمخشري في كشافه سأل الله السلامة. ولم يكن ابن جرير من الحذاق في علم القراءة ولا من المتفرغين لدراسته وتدريسه. وهذا هو مصدر أخطائه كما نبّه على ذلك الحذاق من اهل هذا العلم.
وترتيب السور والآيات في المصحف المتواتر ليس على ترتيب النزول بل هذا الترتيب المتواتر هو الترتيب المتلقى من النبي صلوات الله عليه في العرض الأخير. بل كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يرشد الامة كلما نزلت آية إلى موضعها بين الآيات في السور، كما كان يرشدهم إلى ترتيب السور على ما في الحديث الصحيح عن تجزئة القرآن.
والحاصل أنّ الحجة قائمة على أن الترتيب بين السور توقيفي في التحقيق ، كما أنّ الترتيب بين الآيات في السور توقيفي.
وأنّى يُتصوّر العرض المترتب في السمع بدون ترتيب في السور وآياتها، وكان القرآن كله مكتوباً في رقاع وأكتاف وعُسُب ونحوها في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكانت تلك القطع المكتوبة بمحضره عليه السلام يحرسها الصحابة في بيوتهم مع استظهارهم لما فيها بل للقرآن كله ، بل كان القرآن يحفظه كله من لا يحصيهم العدّ في عهده صلى الله عليه وآله وسلم بالطريقة التي شرحنها ، والعدد المروي عن بعض الصحابة إنما هو بالنظر إلى علم الراوي وبالنظر إلى قبيلة خاصة ، ولا يشكّ في ذلك من استعرض الرويات في هذا الصدد. وقد توسّعنا في بيان ذلك فيما أمليناه في علوم القرآن قبل سنين متطاولة.
يتبع
__________________