وسعى قرّاء الصحابة المبعوثين إلى الأقطار النائية في تعليم القرآن وتحفيظه فوق كل تقدير. وقد اكتظت كتب التاريخ المؤلفة في أخبار الصحابة وأنباء الأمصار وتراجم قرّاء البلاد بمساعيهم الحميدة في ذلك ، وتجد مصداق ما ذكرناه في (تاريخ دمشق) لأبي زرعةَ الدمشقي و (فضائل القرآن) لابن الضريس و (تاريخ دمشق) لابن عساكر و (طبقات القراء) للذهبي وغيرها من الكتب المتداولة.
ولم يكن عدد المصاحف في البلاد الإسلامية في عهد الصحابة يقل عن مائة ألف مصحف بالنظر إلى سعة مساحة البلاد المفتوحة وعناية أهليها بتعليم القرآن الكريم ، بل كان عمر الفاروق - رضي الله عنه - يفرض مرتبات من بيت مال المسلمين للذين يستظهرون كتاب الله الكريم إلى أن خشى أن يشتغل الناس بحفظ القرىن ويهملوا أمر التفقه فيه. وكان من الذين جمعوا بين التحفيظ والتفقيه ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
والذين تخرجوا في القرآن والفقه عند ابن مسعود بالكوفة لهم كثرة بالغة ، حتى أنّ الذين قاموا ضدّ بني أميّة مع عبدالرحمن بن الأشعث من القرّاء فقط نحو أربعة آلآف قارئ هم خيار التابعين من تلاميذه وتلاميذ تلاميذه ، وكان أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - يقسم تلاميذه حلقة حلقة ، ويجعل لكل حلقة نقيباً يشرف عليهم ، ثم هو يشرف على الجميع تعليماً وتحفيظاً كل يومٍ من طلوع الشمس إلى الظهر في جامع البصرة ، ويفعل مثل ذلك سواء بسواء أبو الدرداء -رضي الله عنه - في جامع دمشق كل يوم إلى أن توفي بالشام ، ومناقبهم في التحفيظ والتفقيه لا تسعها هذه العجالة .
هكذا كان شأنهم في تعليم القرآن والقراءات التي تعد أبعاض القرآن وهي القراءات المتواترة تواتراً لا يتصور المزيد عليه في الطبقات كلها . وأما ما يُروى بطريق الآحاد من القراءات المنسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى بعض الصحابة والتابعين فليس من القرآن أصلاً ، بل يدور أمره بين أن يكون تفسيراً سُمعَ منهم في أثناء تعليمهم القرآن ثم دوِّنَ في عداد القراءة ، وبين أن يكون سهواً جرى على لسان التالي وظنه السامع قراءة . ولمثل ذلك أشار مالك بن أنس إلى نافع القارئ بألاّ يؤمَّ القوم حينما استشاره في ذلك قائلاً له ما معناه : إنك بارع في القراءات فإذا سهوتَ في القراءة أثناء الصلاة ربما يظن بهذا السهو أنه قراءة مروية فيتلقى منك هذا السهو كقراءة. وتلك القراءات الشواذ دوَّنَها العلماء في كتب خاصة ، منها الجاري مجرى التفسير ومنها السهو المحض .
وتوجد قراءات تُروى بأسانيد ملفقة كاذبة وحقها أن لا تعد من القراءات بالمرة ، والفرق بينها شأنُ العلماء الاختصاصيين بحجج ناهضة معلومة لأهلها ، قال أبو عبيد في (فضائل القرآن) عند ذكر ما جمع في عهد عثمان تحت إشراف جمهرة الصحابة :
(وهو الذي يُحكمُ على من أنكر منه شيئاً بالحكم على المرتد من الاستتابة فإن أبى فالقتل ) ، ثم قال عند الكلام على الشواذ والألفاظ الواردة بغير طريق التواتر: ( فهذه الحروف وأشباه لها كثيرة قد صارت مفسّرةً للقرآن ، وقد كان يُروى مثل هذا عن بعض التابعين في التفسير فيستحسن ذلك ، فكيف إذا روي عن كبار أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم صار في نفس القراءة فهو الآن أكثر من التفسير وأقوى . وأدنى ما يستنبط من علم هذه الحروف معرفة صحة التأويل على أنها من العلم الذي لا يعرف العامة فضله ، وإنما يعرف ذلك العلماء ). آ.هـ.
وظاهر جدا كون ما يروى عن أمثال ابن مسعود وأُبي بن كعب وابن عباس - رضي الله عنهم - من الألفاظ المخالفة للمتواتر تفسيراً على الوجه الذي سبق بيانه. وقد تواترت عن ابن مسعود قراءته بطريق أصحابه من أهل الكوفة ، وقد تلقاها عاصم عن زر بن حبيش عنه - رضي الله عنه - ، وهي التي يرويها أبو بكر بن عياش عن عاصم ، وتواترها البالغ مما لا يتناطح فيه ، وليس فيها تلك الالفاظ الشاذة . ومن زعم أنه لم يكن في مصحفه الفاتحة والمعوذتان أو أنه كان يحك المعوذتين فكاذب قصدا أو واهم من غير قصد . والمعوذتان موجودتان في قراءة ابن مسعود المتواترة عنه بطريق أصحابه ، وكذلك الفاتحة ، وقراءته هي قراءة عاصم المتواترة التي يسمعها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها في كل حين وفي كل الطبقات. وأنّى يناهض خبر الآحاد الرواية المتواترة! على أن العامة يحفظون عن ظهر قلب الفاتحة والمعوذتين لصلواتهم وتعاويذهم في عهده ، فلا مانع من أن يكون استغنى عن كتابتها لكونها غير مظنة للنسيان ، ولا مانع أيضا من ان يكون يحكّ اسم المعوذتين دون المسمى على طريقته المعلومة في تجريد القرآن من أسماء السور وعدد آياتها وأعشارها وغير ذلك مما لا يدخل في التنزيل ، وقد أجاد ابن حزم الردَّ على تقولات المتقولين في هذا الصدد في كثير من مؤلفاته.
والعناية البالغة من الأمة باستظهار القرآن وحفظه من يوم النزول إلى اليوم وإلى قيام الساعة ، لا تحول دون وهم واهم في لفظه ، وغلط غالط في كلمة ، لأنه ليس في طبيعة البشر أن يكون جميع أفراده سواء في الحفظ والعلم والفهم ، لكن الأوهام والأغلاط تذوب أمام ضبط الجماهير وحفظهم في كل طبقة ويستأنس أهل العلم بألفاظ تروى في صدد القراءة بتمييزهم بين ما هو من قبيل التفسير وبين ما هو سهو بحت ، وبين ما هو خبر صرف ظنّه بعض مغفلي الرواة آيةً وبين ما هو ملفق محض ، فيجعلون لكل منها حكمه الخاص به .
يتبع