مصحف عثمان :
ولما اتسع نظاق الفتوح الإسلامية جداً ، وبدأت الأغلاط في التلاوة تَذيعُ في البلاد الشاسعة أجمعت الصحابة في عهد عثمان - رضي الله عنه - على نسخِ مصاحف من صُحُفِ أبي بكر وإرسالها إلى أمصار المسلمين تحت إشراف قرّاء معروفين ، ليُقَابِلَ أهلُ كل قطر مصاحفهم بالمصاحف المكتوبة تحت إشراف الصحابة المرسلة إليهم ، وليتخذوها أئمة يقتدون بها في التلاوة والكتابة بنبذ ما سوى ذلك من المصاحف التي كتبها أفراد وغلطوا فيها ، ولم يأبَ ذلك أحد من الصحابة ، حتى أنّ أُبيّ بن كعب - رضي الله عنه - كان من المساعدين لزيد في أمر النسخ.
وأمّا ما يُصرُ عليه الذهبيّ من تقديم وفاتِهِ فوهمٌ محضٌ ، بل إنّ ابن مسعود - رضي الله عنه - بعد أن أبدى بعض استياء من عدم توليته أمر الكتابة وافق الجماعة على هذا العمل الحكيم ، حيث قال للذين فزعوا إليه في أمر المصاحف : ( إنّ القرآن نزل على نبيكم من سبعة أبواب على سبعة أحرف ) . وكان زيد بن ثابت - رضي الله عنه - هو الذي قام بكتابة القرآن ومعه رهطٌ في عهد عثمان، كما كان هو القائم بها في عهد أبي بكر ، فليس لابن مسعود - رضي الله عنه - أن يستاء من تولية عثمان زيداً أمر نسخ القرآن وكتابته لأنه هو الذي كان ولّيها في عهد أبي بكر ، وقد وقع عليه الاختيار في العهدين بالنظر إلى أن زيد بن ثابت كان أكثر كتّاب الوحي ملازمةً للنبي - عليه السلام - في كتابة الوحي ، على شبابه وقوته وجودة خطه ، فيكون أجدر بذلك ولأبي بكر وعثمان أسوة حسنة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اختياره لكتابة المصحف الكريم ، على أن طول ممارسته لمهمة كتابة القرآن يجعله جارياً على نمط واحد في الرسم ، واتحاد الرسم في جميع أدوار كتابة القرآن أمر مطلوب جداً، وتحميل مثل هذا العمل الشاق للشيوخ من الصحابة يكون فيه إرهاق ، وليس أحد من الصحابة ينكر فضل ابن مسعود وسبقه واتساعه في معرفة القرآن وعلومه ، لكنهم لا يرون وجها لاستيائه من هذا الأمر وهو القائم بمهمة عظيمة في الكوفة ، يفقّه أهلها في دين الله ويعلمهم القرآن ، وابتعاده عن الكوفة سنين لم يكن من مصلحة العلم الذي زَرع بذوره هناك، بل كان من الواجب أن يستمر على تعهد غراسه لتؤتي أُكُلُها بإذن ربه.
وقد استمر عمل الجماعة في نسخ المصاحف مدة خمس سنين ، من سنة خمس وعشرين إلى سنة ثلاثين في التحقيق ، ثم أرسلوا المصاحف المكتوبة إلى الأمصار ، وقد احتفظ عثمان بمصحف منها لأهل المدينة ، وبمصحف لنفسه ، غير ما أرسل إلى مكة والشام والكوفة والبصرة ، وكانت تلك المصاحف تحت إشراف قرّاء مشهورين في الإقراء والمعارضة بها ، فشكرت الأمة صنيع عثمان هذا شكرا عميقاً ، وفي مقدمتهم علي بن أبي طالبٍ - كرم الله وجهه - بل كان يقول : لو وليت لفعلت في المصاحف الذي فعله عثمان . كما روى ذلك أبو عبيد فبي في فضائل القرآن عن عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن علقمة بن مرثد عن سويد بن غفلة على علي كرّم الله وجهه.
فالقراءات الموجودة في العرضة الأخيرة هي أبعاض القرآن. فما أمكن جمعه منها بالخط جمعوه بالخط في المصاحف المكتوبة ، حيث لم يكن في خط الصحابة شكل ولا نقط ، بل كانوا يستغنون عن كتابة الألفات المتوسطة في الكلمات : ولذلك تمكنوا من الجمع بالخط بين (فتبينوا) و (فتثبتوا) وبين (ينشركم) و (يسيركم) إلى نحو ذلك من القراءات المتواترة ، وأما مالم يمكن جمعه بالخط فوزعوه على المصاحف.
وكيفية الرسم في تلك المصاحف مدونة تفصيلاً في كتب خاصة من أول عهد إلى يومنا هذا ، ومن الكتب السهلة التناول في هذا الصدد كتاب (المقنع) للداني وَ (المحكم) له أيضاً ، وقد لخصهما من كتب الأقدمين في رسم القرآن ، ومئات من القرّاء في كل طبقة يعرفون كيفية إملاء الكلمات في تلك المصاحف من أول يوم إلى يومنا هذا. وها هي كتبهم المدونة في كل طبقة في الرسم ماثلة أمامنا بكثرة بالغة.
ومصحف الكوفة من بين تلك المصاحف - كما يذكره السجقلي - هو المصحف الذي كان محفوظاً بطَرطُوس - أمام جزيرة أرواد - قرب طرابلس الشام في عهد العلم السخاوي ، ثم نُقلَ إلى قلعة حمص ، ويصفه النابلسي في رحلته الكبرى سنة 1100 (ألف ومائة) ولم يزل محفوظاً بها إلى الحرب العامة ، فنقله أصحابُ الشأن من هناك إلى عاصمة الدولة. (*)
وكذلك كان مصحف المدينة المنورة محفوظاً بالروضة المعطرة مدى القرون إلى الحرب العامة ، ثم نقل إلى العاصمة أيضاً في أثناء الحرب العامة ، ولعله أعيد إليها بعد أن وضعت الحرب أوزارها .
وأما مصحف الشام فهو الذي كان بطبرية ثم نقل إلى دمشق ، وكان محفوظاً في مسجد التوبة في عهد ابن الجزري ، ثم استمر محفوظاً في حجرة الخطيب بالجامع الأموي إلى الحرب العامة أيضاً ثم نُقلَ فيما نقل إلى العاصمة.
وكان الشيخ عبد الحكيم الأفغاني الدمشقي العالم المشهور من أهل عصرنا أُلهمَ نسخَ القرآن من المصحف الدمشقي على طبق رسمه قبل وفاته بسنوات قلائل وقبل الحرب العامة ، كأنه كان أحسَّ أن المصحف الشامي يُنقلُ من هناك ، فأتم نسخه على طبق رسمه بيده الكريمة . ومصحف عبد الحكيم هذا محفوظ عند بعض أصحابه بدمشق إلى اليوم. وفي (الحقيقة والمجاز في رحلة الشام ومصر والحجاز ) لعبد الغني النابلسي وصفُ ما شاهده في حمص ومصر من المصاحف الأثرية . وذكر في (منادمة الأطلال) أنباء المصاحف الشامية في العهد الأخير .
وأما مصحف عثمان الخاص به الذي اطلع عليه أبو عبيد في بعض الخزائن على ما في العقيلة وشروحها ، فلا يبعد أن يكون هو المصحف الذي يذكره المقريزي في الخطط عند الكلام على مصحف أسماء في جامع عمرو - الذي كان عبدالعزيز بن مروان وعد بجائزة كبيرة عن كل غلطة توجد فيه ، فوجد قارئ كوفي كلمة (نجعة) بدل (نعجة) غلطاً فأخذ الجائزة - ثم نُقل إلى قبة الملك الغَوري بالقاهرة مع الآثار النبوية ، ثم نقل إلى المشهد الحسيني بها مع الآثار المذكورة ، ويصفه العلامة الشيخ بخيت في (الكلمات الحسان).
وكثير من الماكرين يجترئون على تلطيخ بعض المصاحف القديمة بالدم ليظن أنه الذي كان بيد عثمان رضي الله عنه حينما قتل. وكم من مصاحف ملطخة بالدم في خزانات الكتب والله ينتقم منهم .
وأمّا ما أرسله الملك الظاهر بيبرس إلى ملك المغول في الشمال في أولجا وما والاها - أثناء سعيه الموفق في إرشادهم إلى الإسلام - فليس هو بالمصحف العثماني رغم ما شهر في البلاد ، وإن كان من المصاحف القديمة المنسوخة في عهد الصحابة ، لأنّ رسمه يخالف رسم مصحف عثمان الخاص في بعض الكلمات كما حققه العلامة الشهاب المرجاني في (وفيات الأسلاف وتحفة الأخلاف)بمعرضة رسمه برسم مصحف عثمان الخاص المدون في كتب الرسم كالرائية وغيرها. ويظهر أن مصحف بيبرس هو المصحف الذي كان محفوظاً بجامع عبيد الله الأحرار السمرقندي (**) بسمرقند بعد انقراض دولة المغول الشمالية وحينما استولى الروس على سمرقند في القرن المنصرم نقلوا المصحف المذكور إلى خزانة قيصر روسيا ، ولم يزل محفوظاً بها إلى انقراض دولتهم. ويقال أن أُعيدَ إلى الجامع المذكور بسمرقند قبل نحو خمسَ عشرة سنة بعد انقراض دولتهم ، لكن جهلة المسلمين هناك أخذوا أوراقاً كثيرةً منه من مواضع متفرقة خُفيةً باسم التبرك ، فقضوا بذلك على هذا المصحف الأثري العظيم القدر ، ولله في خلقه شئون.
وقد تمكن بعض أهل الفضل من أخذ صورة شمسية من البقية الباقية ، ولتلك المصاحف قيمتها الأثرية العظيمة وإن لم يكن إليها حاجة في معرفة الرسم لأنّه مدوّنٌ في كل طبقة كما ذكرنا.
يتبع